الهجمات العنصرية في تركيا- تداعيات إنسانية، أمنية، وإستراتيجية

المؤلف: سمير العركي10.22.2025
الهجمات العنصرية في تركيا- تداعيات إنسانية، أمنية، وإستراتيجية

ربما كانت الاعتداءات ذات الطابع العنصري التي تستهدف السوريين في بعض المناطق التركية ليست بالظاهرة الجديدة كليًا، إلا أن الموجة الأخيرة من الهجمات التي استعرت في ولاية قيصري، قلب الأناضول، وامتدت ارتداداتها إلى ولايات أخرى، تميزت باتساع نطاقها وعمق تأثيرها الإنساني والاستراتيجي والاقتصادي.

فقد أشعلت فتيل الأحداث شائعة مألوفة تتحدث عن اعتداء جنسي ارتكبه صبي سوري بحق طفلة تركية (تبين لاحقًا أنها سورية أيضًا)، لتنطلق على إثرها جموع غفيرة لتدمير وحرق ممتلكات السوريين القاطنين في الولاية، وسرعان ما تفاقم الوضع وامتد إلى ولايات أخرى، وإن كان ذلك بوتيرة أقل حدة.

بعد تصاعد وتيرة الأحداث، خرج الرئيس التركي ليؤكد بكل حزم أنه لن يسمح بوقوع أي تجاوزات، ولا بأي محاولات لزرع الفوضى، أو لتطبيق القانون خارج نطاق المؤسسات الرسمية. وعلى الفور، باشرت وزارة الداخلية التركية حملة اعتقالات واسعة النطاق استهدفت المتورطين في الأحداث، وشملت ما يقارب الألف شخص، كما أعلنت عن إلقاء القبض على صاحب الحساب الذي قام بتسريب قائمة طويلة تتضمن بيانات السوريين المقيمين في تركيا على تطبيق إنستغرام، والذي تبين أنه صبي يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا.

ولكن قبل الخوض في التداعيات المترتبة على هذه الأحداث، يجدر بنا تسجيل بعض الملاحظات الهامة التي قد تسهم في إلقاء المزيد من الضوء على المشهد العام.

ملاحظات مهمّة

  • أولًا: تجدر الإشارة إلى أن هذه الاعتداءات قد وقعت في مدينة تقع في صميم منطقة الأناضول، حيث معقل المحافظين الأتراك، وامتدت لتشمل مدنًا أخرى ذات ثقل انتخابي كبير لحزب العدالة والتنمية الحاكم، مثل: قونيا، وغازي عنتاب.
  • ثانيًا: على الرغم من أن هذه الاعتداءات قد تبدو عفوية للوهلة الأولى، إلا أن التخطيط المسبق لها كان واضحًا جليًا، سواء من خلال تتبع الفيديوهات المنشورة، أو من خلال تحليل الشرائح الاجتماعية التي شاركت في الهجمات، والتي كان أغلبها من الفئات العمرية التي تقل عن الثامنة عشرة، حيث تم الدفع بهم إلى واجهة الأحداث بهدف تجنب المساءلة القانونية.
  • ثالثًا: مما يعزز الفرضية السابقة، ما كشف عنه بيان وزارة الداخلية حول الدور المحوري الذي لعبه المسجلون جنائيًا في هذه الاعتداءات، حيث قاموا بتجنيد وحشد الأفراد وتوجيههم إلى أماكن تواجد السوريين.
  • رابعًا: عمد المحرضون إلى نشر مقاطع مصورة على نطاق واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي، تظهر اعتداءات مماثلة في ولايات مختلفة، نفذتها مجموعات صغيرة من الصبية، بهدف خلق شعور عام بوجود حالة من الفوضى والانفلات الأمني في البلاد، وأن الأمور قد خرجت عن سيطرة السلطات.
  • خامسًا: في مشهد يُحسب لهم، سجل غالبية المثقفين والصحفيين الأتراك، على اختلاف مشاربهم السياسية والأيديولوجية، موقفًا إنسانيًا نبيلًا، من خلال إدانتهم ورفضهم القاطع لهذه الهجمات، حتى وإن اختلف بعضهم مع السياسة التي تتبناها الدولة تجاه ملف اللاجئين.

تحديات إنسانية خلفتها الهجمات

على الرغم من الحملات الدعائية التي يشنها اليمين المتطرف والتي تركز بشكل أساسي على ملف اللاجئين، إلا أنه لم يحظَ بشعبية كبيرة في أوساط الشعب التركي في أي من الانتخابات التي جرت خلال الفترة الماضية.

ففي الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أُجريت في عام 2023، لم يحصل المرشح الرئاسي المدعوم من "حزب الظفر" إلا على نسبة 5.1% من الأصوات، أي ما يقارب مليونين و800 ألف صوت من أصل حوالي 61 مليون ناخب، في حين لم يتمكن الحزب من الحصول إلا على نسبة 2.4% فقط، وهي نسبة لم تخوله لدخول البرلمان. واستمر الحزب في التراجع، حيث حصل في الانتخابات البلدية التي جرت في شهر مارس/آذار الماضي على نسبة 1.7% فقط.

هذه الأرقام تعكس بوضوح أن المزاج العام للشعب التركي لا يتماشى مع الأفكار اليمينية المتطرفة المعادية للأجانب، وذلك في لحظات الاختيار العقلانية.

كما أن التركيبة العرقية المتنوعة للمجتمع التركي، والتي تضم: (أتراك، أكراد، عرب، ألبان، بوشناق، لاظ)، بالإضافة إلى التنوع الديني، وإن كان بنسبة أقل، والتنوع المذهبي، كلها عوامل أسهمت في ترسيخ قيم قبول التنوع، والتسامح مع الآخر المختلف عرقيًا أو دينيًا أو مذهبيًا، شريطة أن يترك المجتمع دون تأثيرات سلبية من السياسيين والإعلام.

لكن على الرغم من ذلك، لا تزال الذاكرة الجمعية للمجتمع التركي تختزن حوادث مماثلة، تركت جراحًا غائرة في الضمير العام للمجتمع حتى الآن.

ومن الأمثلة البارزة على ذلك، الاعتداء على الأتراك من أصول يونانية في إسطنبول في شهر سبتمبر/أيلول من عام 1955، وذلك عقب انتشار أنباء في الصحف تفيد باستهداف منزل مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، في مدينة سالونيك باليونان.

تلك الشائعة المغرضة أدت إلى استهداف الأحياء التي يقطنها ذوو الأصول اليونانية، مما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى، وتدمير ممتلكات خاصة، وصولًا إلى هجرة شبه جماعية خارج تركيا.

من هنا، يبرز التحدي الجاثم على الأبواب، والذي يحذر منه الكتاب والمثقفون، وهو ضرورة منع تدحرج الأحداث إلى نقطة اللاعودة، وإعادة إنتاج مأساة عام 1955 مرة أخرى. خاصة وأن المجتمع التركي يعيش حالة من الاحتقان نتيجة الأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي ألقت بظلالها القاتمة على المزاج العام.

ففي السنوات الأولى للثورة السورية، كان هناك ترحيب واسع النطاق بالسوريين، وانتشر مفهوم "المهاجرون والأنصار" على نطاق واسع، إلا أنه طرأت حالة من التبدل والتغير لا يمكن إنكارها، ساهم فيها الوضع الاقتصادي المتدهور، ثم الزيادة المطردة في أعداد المهاجرين، وطول أمد الأزمة السورية، مع عدم وجود حلول تلوح في الأفق القريب، بالإضافة إلى عدم التصدي للدعايات المغرضة التي تستهدف اللاجئين، والتي يندرج معظمها في إطار الشائعات الممنهجة، وللأسف الشديد، فإن بعض الساسة والإعلاميين المعروفين يتولون مهمة نشرها وترويجها!

كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى الاعتداءات الأخيرة، والتي ستؤثر بلا شك سلبًا على الصورة الحقيقية لتركيا، باعتبارها دولة لا تزال حتى الآن تستضيف ملايين المهاجرين على أراضيها، وتوفر لهم الرعاية والخدمات المتنوعة.

لذا، فإن مؤسسات الدولة الرسمية والأهلية مدعوة لتكثيف جهودها الحثيثة لمعالجة هذه التداعيات الإنسانية الخطيرة، خاصة وأن شهادات المواطنين الأتراك بشأن ما حدث ليلة الاعتداءات التي طالت جيرانهم السوريين تبعث على الفزع والرعب.

التداعيات الأمنية والإستراتيجيّة

أعلنت وزارة الداخلية التركية عن اعتقال ما يزيد على ألف شخص على خلفية تلك الاعتداءات، فيما صدرت أوامر قضائية بالرقابة على العشرات. هذه الإجراءات، على الرغم من أهميتها البالغة، إلا أنها ليست كافية، إذ يجب الوصول إلى العقول المدبرة التي تقف وراء هذه الأحداث.

فإذا كان هناك منفذون يتحركون على الأرض بدوافع عنصرية، فإن هناك عقلًا سياسيًا خفيًا يختبئ خلفهم، يخطط بدقة متناهية لاستخدام ورقة اللاجئين لتحقيق أهداف سياسية خبيثة.

فخلال الفترة الماضية، تصاعدت أصوات في المعارضة تطالب بإجراء انتخابات مبكرة، وبما أن المعارضة لا تمتلك العدد الكافي من المقاعد في البرلمان لتمرير هذا القرار، فإن هناك مسلكًا أخيرًا، وهو دفع البلاد إلى الفوضى والاضطرابات، على أمل أن يؤدي ذلك إلى التعجيل بخيار الانتخابات المبكرة.

فالذاكرة الوطنية التركية لا تزال تحتفظ بصورة حية لكيفية تسبب الاقتتال في الشوارع بين اليمين واليسار في انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980 بقيادة الجنرال كنعان إيفرين.

والتداعيات لن تتوقف عند الداخل، بل امتدت لتشمل سوريا، وخاصة مناطق الشمال، التي تمثل عمقًا إستراتيجيًا وأمنيًا حيويًا لتركيا، وقد تابعنا حجم التوتر الأمني الذي خيم على تلك المناطق في اليوم التالي مباشرة لهجمات قيصري، مما أثار انطباعًا أوليًا بوجود تنسيق مسبق بين الحدث الأصلي وتوابعه!

فالشمال السوري يمثل الحاضنة الشعبية للمناطق التي تشهد عمليات عسكرية للجيش التركي ضد تنظيم حزب العمال وفروعه في سوريا، مثل وحدات الحماية الكردية.

ومن مصلحة أنقرة الحفاظ على العلاقة بينها وبين سكان تلك المناطق في أفضل حال، في ظل وجود جماعات وتنظيمات إرهابية مثل تنظيم الدولة، وحزب العمال "PKK" التي تسعى جاهدة لزرع بذور الفتنة وتفخيخ هذه العلاقة.

كما أن الجيش التركي، الذي يستعد لشن عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال العراق، وربما في الشمال السوري أيضًا، ليس في حاجة إلى مثل هذه الأزمات التي قد تشتت تركيزه وتقوض جهوده العسكرية الأساسية.

أيضًا، لم تتوقف التداعيات عند هذا الحد، بل امتدت إلى الاقتصاد، وخاصة مجالات السياحة والاستثمار والصناعة.

فالهجمات العنصرية التي شهدتها مدينة قيصري الصناعية، أدت إلى منع حوالي 30 ألف عامل سوري من مغادرة منازلهم والالتحاق بالمصانع التي يعملون بها.

من هنا، فإن المعالجة المنتظرة لهذه الأزمة، يجب أن تتضمن حزمة شاملة من الإجراءات الناجزة والفعالة، على جميع المستويات القانونية والأمنية والحقوقية والإنسانية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة